تذكّر موتك Memento Mori
لمى فياض
7 كانون الأول 2017، لبنان
يمنع نشر المقال الحاضر من دون التقيّد بشرط: ذكر اسم المؤلف ووضع رابط الـمدونة الإلكتروني(HTML Link) الذي يحيل الى مكان المصدر، تحت طائلة تطبيق احكام قانون حماية الملكية الفكرية.

“Memento Mori” ميمنتو موري، تذكرة الموت، تذكّر موتك، تذكّر أنك ستموت. وهي عبارة لاتينية تشير إلى النظرية المسيحية اللاتينية في العصور الوسطى وممارسة التفكير في الموت، وخاصة كوسيلة للنظر في غرور الحياة الدنيوية والطبيعة العابرة لجميع السلع والدوافع الأرضية. ويرتبط ذلك ب “آرس موريندي” (ars moriendi) (“فن الموت”) والأدب المماثل. وكان “ميمنتو موري” جزءاً هاماً من ممارسات الزهد كوسيلة لإتقان التمسك بالزهد والفضائل الأخرى، وعن طريق تحويل الانتباه نحو خلود الروح والحياة الآخرة. كما تشير عبارة ميمنتو موري إلى نوع من الأعمال الفنية التي كان الغالبية العظمى يقومون به بغرض التذكير بالموتى. وهو فن خلّاق يعود ظهوره إلى العصور القديمة. وغالباً ما تكون جمجمة أو ما شابهها حيث تتخذ لتذكر بالموت.
يعتقد الكثيرون بأن مصدر عبارة ميمنتو موري (Memento Mori) الحقيقي يعود لقدماء الرومان حيث أشارت قصة بأنه كان هناك قائد روماني يمشي بخُيلاء في الطرق أثناء مسيرة أنتصار. وكان خلفة يسير عبدٌ أوكل له هذا القائد مهمة تذكيره بأنه وبالرغم من القمة التي وصلها اليوم بعظمة انتصاره فغداً ربما يسقط أو يُسقطونه. ربما قد يكون الخادم فكّر في عبارة “تذكر انك ستموت” لتكون جملة مناسبة لتحذيره ومن المحتمل استخدام الخادم لجملة كـ “أنظر خلفك”، أي تذكر انك إنسان بلا قوة، تذكر أنك ستموت، أنظر إلى أسلافك، تذكر أنك إنسان لا أكثر. كذلك وردت ميمنتو موري (Memento Mori) “تذكر انك ستموت” في الاعتذاريات التي كتبها ترتليان المؤلف الأمازيغي المسيحي دفاعاً عن المسيحية.

التأكيد على احتمالية الموت من سمات الديانة المسيحية فهم من خلاله يقرّون بفراغ وسطحية الحياة الدنيا، ورفاهيتها وعليها فأنه على الناس العمل للآخرة عدا أنه هنالك توافق واضح بين عبارة “تذكر انك ستموت” وبين آيات الإنجيل “خلق الإنسان من تراب وإليه يعود”. كما أن تذكرة الموت هو موضوعاً رئيسياً في الديانة الإسلامية، حيث هناك أوامر متكررة لدفع الانتباه إلى مصير الأجيال السابقة، وقد أُطلق على بعض الصوفية “أهل الكبور” و”أهل القبور” بسبب ممارستهم لتكرار زيارة المقابر للتفكير في الموت وغرور الدنيا. أما في القرآن الكريم فقد وَرَد التذكير بالموت في آيات عدّة، وأن كل نفس ذائقة الموت ولو كانت في بروج مشيّدة.
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ – سورة البقرة 28.
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ – آل عمران 145
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ – آل عمران 185
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا – النساء 78
وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ – سورة ق 19
كلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ – سورة العنكبوت 57

“دعونا نعدّ عقولنا كما لو كنا نصل الى نهاية الحياة. دعونا لا نؤجل شيئاً. دعونا نوازن كتب الحياة كل يوم… إن الشخص الذي يضع اللمسات الأخيرة على حياته كل يوم لا يفتقر إلى الوقت.” سينيكا
إن الممارسة القديمة للتفكير في الموت تعود إلى سقراط، الذي قال أن الممارسة السليمة للفلسفة هي “عن أي شيء آخر ولكن الموت وكوننا أموات”. في كتابه “تأملات”، كتب ماركوس أوريليوس: ” يمكن أن تترك الحياة حالاً. دع ذلك يحدد ما تفعله وتقوله وتفكر به”. كان هذا تذكير شخصي لمواصلة عيش حياة الفضيلة في الحال، وليس الانتظار. وعبّر الرسام الفرنسي فيليب دي شامبيغن (Philippe de Champaigne) عن مشاعر مماثلة في لوحة “الحياة مع الجمجمة” (Still Life with a Skull)، والتي أظهرت ثلاثة أساسيات الوجود – الخزامى (الحياة) والجمجمة (الموت) والساعة الرملية (الوقت). اللوحة الأصلية هي جزء من نوع يشار إليه باسم “فانيتاس” (Vanitas)، وهو شكل من أشكال الأعمال الفنية في القرن ال 17 ويضم رموز الوفيات التي تشجع على التفكير في معنى وعبرة الحياة.
ويجد الرواقي (Stoic) هذه الفكرة منشّطة ومتواضعة. فليس من المستغرب أن واحدة من السير الذاتية لسينيكا (Seneca) هي بعنوان “الموت كل يوم” (Dying Every Day). بعد كل شيء، هو سينيكا الذي حثّنا على أن نقول لأنفسنا “أنت قد لا تستيقظ غدا”، عندما يذهب إلى الفراش و”أنت قد لا تنام مرة أخرى،” عند الاستيقاظ كتذكير بموتنا. رواقي آخر، وهو إبيكتيتوس (Epictetus)، حثّ طلابه: “حافظ على الموت والنفي أمام عينيك كل يوم، جنباً إلى جنب مع كل ما يبدو رهيباً – من خلال القيام بذلك، لن يكون لديك فكرة الأساس ولا سيكون لديك رغبة مفرطة”. دع استخدام تلك التذكيرات والتأمل عليها يومياً، الحجر الأساسي لعيش حياتك على أكمل وجه وعدم إضاعة ثانية واحدة. (كيف تصبح رواقياً؟ الرواقية الحديثة في القرن الواحد والعشرين)

إننا بحاجة ماسة في حياتنا الخاصة للتذكير بموتنا وهي فكرة نفضل تجاهلها، ونفعل كل شيء لتجنبها والتظاهر بعدم صحتّها. في معظم الأحيان، الأنا لدينا يهرب بعيداً عن أي شيء يذكرنا بالواقع أو نحن ببساطة لدينا نظرة متحجرة للنظر في حقائق الحياة كما هي. وهناك حقيقة واحدة بسيطة أن معظمنا خائفون تماماً للتأمل، ومواجهة التفكير بأننا سنموت. الجميع من حولنا سوف يموت.
على مر التاريخ، جاء تذكير ميمنتو موري في أشكال كثيرة. بالنسبة لنا نحن أبناء القرن الواحد والعشرين تبدو لنا فكرة الموت وكأنه فكرة فظيعة. من يريد أن يفكر في الموت؟ ولكن ماذا لو فعلنا العكس بدلاً من الخوف وعدم الرغبة في تبني هذه الحقيقة؟ ماذا لو كان التفكير والتأمل في هذه الحقيقة هو مفتاح بسيط للعيش على أكمل وجه؟ أو أن ذلك كان مفتاح حريتنا كما قال مونتين: “إن ممارسة الموت هي ممارسة الحرية. الرجل الذي تعلم كيف يموت لم يكشف كيف يكون عبداً “.
التأمل بموتك هو في الواقع أداة لخلق الأولوية والمعنى. إنها أداة استخدمتها الأجيال لخلق منظور حقيقي وملحّ. إن وقتنا هو هدية لذا يجب عدم تضييعه على توافه الأمور غير المجدية. الموت لا يجعل الحياة عديمة الفائدة بل هادفة. ولحسن الحظ، ليس علينا أن نموت قريباً للاستفادة من ذلك. فقط تذكير بسيط يمكن أن يقرّبنا من العيش في الحياة كما نريد.
وفيما يلي تصوير الميمنتو موري Memento Mori في بعض اللوحات الفنية:




